يضيق الصدر قبل العقل
عن ترداد السياسة وأمورها والسياسيون وأخبارهم ، فلا أجد لي منفذا أو مصبّرا لي
سوى باللجوء إلي حكايا الفن والطرب و أهله ، فهم ملح الحياة ، و كوثرها ، ومائها ،
ولا يعتقدن أحدكم بأنهم يعيشون في أبراج عالية ، بل أن تعليقهم ونوادرهم وتسامرهم
هو انعكاس لطيف وجميل لواقع سياسي واجتماعي ، يقل من ينظر إليه ، ويقل أكثر من
يفهمه ، فحين نقرأ للشاعر علي الجارم قوله :
من عهد قابيل وليس
أمامنا في الأرض سوى تشاكس وعراك
وهو بيت من قصيدة غنتها
له أم كلثوم بدايتها " مالي فتنت بلحظك الفتاك .." وحين يردد أن الإنسان
لازال في عراك وهو الذي مات عام 1949 ، فماذا تتوقع أن يقول الآن في هذا العصر .
ليس هو فحسب ، بل أنني
حين أقرأ وأستعيد قصيدة " لست أدري " لإيليا أبو ماضي " والتي
غناها الراحل عبدالحليم حافظ في فيلم الخطايا ، نجد أن ضياع الدرب وتقاطعه ينطبق
على لسان حالنا كبشر .. أي بشر .. يقطن على ضفاف بحر أو محيط ، لاسيما حين يردد :
" هل أنا حر طليق أم أسير في قيود "
هل أنا قائد نفسي في
حياتي أم مقود ؟
وهو تساؤل عروبي نراه
في بلدان الربيع العربي ونحن منهم بالطبع !!
ولم يسلم الشعر والغناء
من تطرف الهوى والعشق فهذا الأخطل الصغير ( بشارة الخوري ) يصف لقاءه مع من يحب :
فأصاب صدرك صدره لما
انحنى وتكهرب الفمان فإتحدا فما
أو حين يتطرق بشعره
ويقول بصوفية نادرة :
لو إن بعض هواك كان تعبدا وحياة عينك ما دخلت جهنما
وحين استرجع شعرا يبقى
في الذاكرة ولم يغنه أحد فليس سوى عمر أبو ريشه يصف بسخرية بالغه وضعنا بقوله :
لا يلام الذئب في
عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم ..
ولا تعليق لدينا !!
وليست كل القصائد أغاني
، وإن كان ما يصلح للشعر وقراءته لا يصلح للغناء وأوزانه ومقاماته ، فقصيدة نزار القباني " رسالة من سيدة حاقدة
" تغيرت لإلغاء لفظه حاقدة حين غنتها فايزه أحمد بلحن لزوجها محمد سلطان ، بل
وألغي شطرا فيها يقول :
" لا تعتذر يا نذل
.. لا تتأسف "
حين اكتشفت المرأة
خيانته ، وقالت له :
" أنا لست آسفة
عليك .. لكن على قلبي الوفي .. قلبي الذي
لم تعرف "
فمن منا يعرف قلب
المرأة كما يجب ؟ وهل تسمح المرأة بذلك ابتداء ؟
وما دمنا مع نزار فقد
غنت له ماجدة الرومي قصيدة " مع الجريدة " وهي منقولة بحرفنه بالغة من قصيدة
جاك بريفير وهو شاعر فرنسي ، ولم يتورع نزار عن اقتباس – حتى لا نقول كلمة أخرى –
عن استخدام ذات المفردات بعد تعريبها .. ولمن يهمه الأمر فالقصيدة منشورة في ديوان
نزار " قصائد " .
من اللطائف والنوادر ،
أن العديد من أمراء الخليج وشيوخه ينظمون الشعر ويقولونه ويستحسنون من يردده ،
فالشيخ أحمد الجابر الصباح نظم العديد منها أشهرها " يا سعود مضى من الشهر
خمس و عشرين ما شفت خلي " ، وسعود هو نديم الشيخ وصديقه الراحل سعود المطوع ،
وأيضا الشيوخ عبدالله السالم الصباح وجابر الأحمد الذي كان يوقع بإسم مستعار ،
ومنهم الأمير عبدالله الفيصل الذي كان يوقع بإسم " محروم " وهو صاحب
رائعة " ثورة الشك " وهي قصيدة تعددت أسباب كتابتها وكلها مما لا يناسب
المقام نشره ، وربما لا يعرف العديد أنه مؤلف أغنية " يا مالكا قلبي "
لعبدالحليم ، ورغم أن مطلع الأغنية قد سبقه إليه الشاعر : أحمد مخيمر " في
قصيدة لحنها أيضا محمد الموجي وغنتها نجاح سلام قبل عبدالحليم ، ولكن نترك ذلك
لتقدير القراء ، وأيضا لعبدالله الفيصل " سمراء يا حلم الطفولة " التي
غناها حليمو أيضا وفيها بيت شعر جميل يقول فيه مخطابا معشوقته :
ووسيلتي قلب به مثواك
إن عزت وسيلة فلترحمي خفقانه لك ..
واسمعي ترتيله
وهو نزوع من الشاعر إلي
دائرته الدينية واقتران نبضات القلب بخشوع الترتيل ، وهو أطهر المشاعر وأنبلها
.
وحتى لا نذهب بعيدا
انظروا إلي توارد الخواطر !! بين عبدالله الفيصل والشاعر اللبناني أمين نخله الذي
سبق الفيصل في كتاب " الشباب المطمئن " في ديوانه دفتر الغزل وبذات
الوزن والقافية لثورة الشك .
ونختم بطرفه للست وهي
جالسه مع جورج جرداق وعبدالوهاب يستمعان إلي قصيدة " هذه ليلتي " ويقول
جرداق :
هذه ليلتي وهذا
العود بث فيه من سحره داوود
فاعترضت الست على إيراد
اسم النبي داوود مراعاة ، واحتسابا ، فاستغرب جرداق ذلك وقال : ولكن عبدالوهاب
غنى " وهل ترنم بالمزمار داوود ؟ "
وحتى أنتي يا ست غنيت في سلو كؤوس الطلى ، " جرت على فم داوود فغناها "
فما المانع الآن ؟
وترد الست بظرف وذكاء :
" أيوه يا جورج .. بس يومها ماكانش فيه إسرائيل ونجمة داوود " .
لنقرأ ذكريات الأغاني وسيرة من يغنيها ففيها
راحة للنفس وإسقاط للكثير مما نراه الآن على مفردات النغم والشعر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق