الأحد، 20 يناير 2013

حتى المقابر لم تسلم منهم

في عام 1991 وفي شهر فبراير أو نهايته وكانت سماء الكويت لازالت ملوثة ومليئة بسخام ودخان الآبار المحروقة ، تلقيت اتصالا من الصديق عبدالعزيز الكليب وكان هو المسؤول المباشر عن مجمع الخليجية في الشرق ، طلب اللقاء معي بصورة عاجله ، فذهبت إليه في ظل ظلام دامس حتى في النهار ، ورائحة النفط المشتعل لا تزال تجثم على الأنفاس ، التقيته ، وكان مضطربا ، خاطبني بهمس كأنه يخشى أن يسمعنا أحد : " أخوي صلاح ، تلقيت اتصالا من مدرائي وهم خارج الكويت يطلبون مني هد المقبرة الصغيرة خذخ – وأشار بيده إلي مقبرة لا يتجاوز طولها عشرون مترا في عشرة أمتار تقبع بخشوع وهدوء في نهاية موقف السيارات القريب من مجمع الخليجية ، وقال أخبروني أن أحضر بلدوزر وأهدم السور والأضرحة والشواهد فيها حتى أساويها بالأرض لرغبتهم لإدخال هذه المساحة إلي مواقف السيارات ، وأنا في الحقيقة استحرم هذا العمل واعتبر أن تدمير القبور لا يجوز شرعا ، فماذا أفعل ؟ كان يتكلم وكنت استمع إليه مذهولا من هكذا بشر لا يحترمون قدسية الموت أو أصحابه فقط لأنهم يعتقدون أنه بمجرد اختلاف الديانة فإنه يحق لهم تدمير القبور والشواهد والأنصبة والأسماء ، طمأنت صاحبي ، ودخلت معه إلي المقبرة ، كان أحد أسوارها مهدما ورأيت الشواهد والقبور وكان على أغلبها نقش الصليب ، وبعضها عليه نجمة داوود ، وبها كتابات باللغة الإنجليزية والأسبانية والعربية ، كانت بحق معلما فريدا ، قديما ، صامتا ، وقورا ، حزنت على ما يجري أمامي ، استرجعت ذاكرتي العديد من القصص التي ليس المجال لذكرها الآن ، تركت صاحبي وذهبت إلي مبنى السفارة الأمريكية القديمة مقابل فندق السفير الآن ، وجدت بعض أفراد الجيش الأمريكي بسياراتهم " الهمر " ، اقتربت بعد أن أوقفت السيارة بعيدا خوفا من " سوء الفهم " ، أتاني أحد الجنود حذرا ، سألني ، أخبرته بأنني أتمنى عليهم عمل شيء لهذه المقبرة المسيحية واليهودية ، تركني قليلا ، ثم عاد ومعه آمره ، طلبوا مني إرشادهم ، تبعوني ، أريتهم المقبرة ، التقطوا لها العديد من الصور ، سألوني ما القصة ، أخبرتهم بخجل عما يعتزم قوم من المسلمين عمله فيها ، لم يعلقوا بشيء ، ذهبوا ، بعد أقل من ساعة عاد أربعة منهم ومعهم بعض الأحجار والأخشاب ومعدات عمل ، أقاموا سورا صغيرا لا يتجاوز الستون سنتمتر على الأماكن المهدومه من المقبرة ، ثم وضعوا العلم الأمريكي مع يافطة صغيرة تفيد بعدم الاقتراب لوجود .. ألغام !! كانت خطوة ذكية منهم لحماية المقبرة .. وهكذا كان !!


وتمر السنوات وأرى بعد ذلك أن بلدية الكويت قد أحاطت المقبرة بسور جميل وعال ، وعلقت عليها يافطة تفيد بأنها مقبرة ، وتمر أيضا السنون حتى قمت بتلبية دعوة غداء في فندق الراية قبل أقل من شهر ، ومن إطلالة الفندق من الأعلى هالني ما رأيت ، فقد أصبحت المقبرة كما ترون في الصور ، أرضا صفصفا ، فقد أزيلت الشواهد في نصف المقبرة ، وسويت بالأرض ، ولم يرحم تاريخ الكويت المكتوب على هذه الشواهد ، ليس هذا فحسب فقد أزيلت اليافطة الحكومية التي تفيد بكونها مقبرة – انظر الصورة – وما لم يفعله ملاك مجمع الخليجية آنذاك فعلته حكومة وبلدية دولة الكويت ، وطيور الظلام فيها ، والذين يعادون الأموات أكثر من عدائهم للحياة      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق