أواخر الخمسينيات .. أوائل الستينيات ، في حولي فريج الجناعات ، بيتنا القديم ، على زاوية الشارع المليء بالغبار ، و حين تختلط رائحة المطر مع رمل الطريق لتخلق رائحة لازالت استذكرها في شغاف القلب ، و قبل الأصيل كنت ترى قطيع الأغنام يسبقه غباره المتطاير ، و كوفية الشاوي " بو مناحي " تطير وراءه و هو يهش بعصاه عليهم ، و في ترتيب غريب تدلف كل شاة إلي بيتها دون إذن و دون إجبار و إلزام و كأنها قد تعبت من المسير طوال نهار قائظ لا تجد ما تأكله سوى بقايا العرفج و قطع من أكياس الإسمنت الجافة ، دون الحصول على قطرة ماء سوى ما يتركه المطر في النقع أو جريان الماء المستعمل من " مداعيب " البيوت إلي وسط الطريق ، استذكر حوش محمد خالد المطوع و هو يعرض الأفلام العربية على قماشه بيضاء كبيرة علقت على حائط الحوش قبل الليوان ، و استذكر أبطالا" على الشاشة مثل عنتر بن شداد و الفارس الأسود و رابحه ، و أفلام فريد الأطرش و الفاتنة سامية جمال التي ألحظ حين ظهورها على الشاشة تغامز الرجال و همسهم و ضحكاتهم المكبوتة و هم يقارنون ما يرونه بما لديهم في البيت !!!! جميلة هي الأجواء الحميمة بين أهل الفريج الواحد ، فلا نجد غربة في الدخول إلي أي منزل و أن نتناول الطعام معهم ، و تلهو و تلعب و تضحك ببراءة يمارسها الكبار قبل الصغار ، كانت الممازحة مسموحه ، و النيات طيبة ، و الذمم طاهرة ، كنت لا تشعر بالغربة و أنت تنتقل من فريج إلي آخر و كنت معروفا" لهم بالاسم ، و هم معروفون لك بالشكل و النسب و العائلة ، و حين تغيب الشمس كانت المطارح و الدواشق تفرش على الأسطح أو بالحوش ، و كان سلوانا هي عد النجوم قبل النوم ، و في أيام الرطوبة كان النوم على طرف السرير فترة حتى تبرد الجهة الأخرى و تنقلب عليها ، و كان الاستيقاظ من الفجر ، و يبدأ النهار جميلا" ، طويلا" نقضيه في اللعب و تدبير المقالب ، كانت أياما" جميلة ، تتراءى لي كخيال أو طيف من خيال ، ذكرى ملونه ، أشعر بضدها و أنا أشاهد أولاد اليوم ، و الغربة التي يعيشها الجار قرب جاره ، حين خربت الذمم و اتسعت الفرقة و تباعدت القلوب . +
إنها ذكريات و أيام ... فاتت و لن تعود ...
صلاح الهاشم salhashem@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق